12/04/2022 - 20:22

رسائل حبّ حنّة أرندت ومارتن هايدغر | ترجمة

رسائل حبّ حنّة أرندت ومارتن هايدغر | ترجمة

مارتن هايدغر وحنّا أرندت

 

المصدر: مجلّة الهامشيّ - The Marginalian.

ترجمة: عبّود الجابري.

 

الكاتب الألمانيّة والمنظّرة السياسيّة الكبيرة حنّة أرندت (14 تشرين الأوّل، 1906  - 4 كانون الأوّل، 1975)، أوّل امرأة تقدّم محاضرات جيفورد المرموقة، وهي سلسلة من المحاضرات الّتي جاءت تحقيقًا لوصيّة آدم لورد جيفورد، وتهدف "إلى تعزيز دراسة علم اللاهوت الطبيعيّ ونشره بمعناه الأوسع؛ أي معرفة الربّ". كانت حنّة واحدة من أكثر المفكّرين الّذين يمتلكون نظرة ثاقبة في قراءة القرن العشرين، رؤيتها كانت تتناول الفرق الجوهريّ بين الحقيقة والمعنى والزمان والمكان، ومكان وجود الأنا في التفكير. غير أنّ أرندت لم تكن محصّنة ضدّ اندفاع الشباب للتخلّي عن أسباب وجهات نظرها المختلفة.

فعندما كانت طالبة جامعيّة تبلغ من العمر 19 عامًا، وقعت في حبّ أستاذها المتزوّج مارت هايدغر (26 أيلول، 1889 – 26 أيّار، 1976)، البالغ من العمر 36 عامًا. هايدغر كان فيلسوفًا مؤثّرًا، بقدر ما هو مثير للجدل، إذ قدّم مساهمات كبيرة في الفلسفتين الظاهراتيّة والوجوديّة. انضمّ أيضًا إلى الحزب النازيّ، وتولّى منصبًا أكاديميًّا تحت رعاية النازيّة، غير أنّه ما لبث أن استقال بعد مرور عام واحد، وتوقّف عن حضور اجتماعات الحزب النازيّ، وأخبر أحد طلّابه في وقت لاحق بأنّه يعتبر تولّي المنصب "أعظم غباء في حياته"، إلّا أنّه لم يعلن شعوره بالندم على الملأ قطّ. أن يقع في حبّ يهوديّة، رأت أرندت أنّ ذلك مبعث قوّة وامتياز؛ لأنّها ستكون أساسيّة ومركزيّة في هويّته، وهو أمر يفضح التعقيد والتناقض الّذي تُنْسَج فيه الروح البشريّة؛ الروح الّتي تبدو خيوطها أقلّ خشونة في أيّ مكان، قياسًا بالحبّ.

 

غلاف كتاب رسائل أرندت وهايدغر

 

بينما اعتبر هايدغر أنّ علاقتهما الرومانسيّة هي "الفترة الأكثر إثارة وتركيزًا وحيويّة" في حياته، وأنّ تلك الحيويّة الإبداعيّة خصّبت كتابه «الوجود والزمان»، أكثر أعماله شهرة وتأثيرًا، وهو الكتاب الّذي قدّم فكرة الوجود في العالم على أنّها طريقتنا الإنسانيّة الأساسيّة في الوجود؛ لتحلّ محلّ مفاهيم الذات والموضوع والعالم والوعي.

كتب في إحدى أوليات رسائل الحبّ الّتي جُمِعَتْ في كتاب يحمل عنوان «الرسائل: 1925 - 1975»، وصدر عن «دار المكتبة العامّة»: "لم يحدث لي شيء من هذا القبيل على الإطلاق"، نصف قرن من المراسلات المثيرة بينه وبين حنّة أرندت، محبّان في البداية ثمّ صديقان وقرينان مثقّفان بعد أن وضعا نهاية لعلاقتهما.

يتوسّل هايدغر إلى أرندت، في رسالته الأولى الّتي كتبها في شباط (فبراير) من عام 1925:

"عزيزتي الآنسة أرندت:

يجب أن آتي لأراك هذا المساء وأتحدّث إلى قلبك.

يجب أن يكون كلّ شيء بيننا بسيطًا وواضحًا ونقيًّا. آنذاك فقط سنكون جديرَين بفرصة اللقاء. أنت تلميذتي وأنا مدرّسك، لكنّ هذه الصفة تناسب ما حدث لنا.

لن أتمكّن أبدًا من مناداتك بي، لكن من الآن فصاعدًا ستنتمين إلى حياتي، وستنمو معك.

لا يمكننا أبدًا معرفة ما تعنيه كياناتنا عند الآخرين".

 

منذ البداية، شرع هايدغر في التوفيق بين قوّة مشاعره، وما يعرف أنّه يخدم وجهة أرندت العقلانيّة:

"الطريق الّذي سوف تسلكه حياتك الغضّة خفيّ، يجب أن نتصالح مع ذلك، وولائي لك سيساعدك فقط على أن تظلّي صادقة مع نفسك".

[...]

"كوني سعيدة، هذه الآن أمنيتي لك.

فقط عندما تكونين سعيدة، فإنّك ستصبحين امرأة قادرة على منح السعادة، ومن حولها السعادة والأمان والراحة والاحترام والامتنان للحياة.

وبهذه الطريقة فقط ستكونين مستعدّة بشكل صحيح لما يمكن الجامعة أن تقدّمه لك، ويجب أن تقدّمه لك".

[...]

" لقد سُمِحَ لنا بالالتقاء: يجب أن نعتبر ذلك هديّة في أعماق كيانينا، ونتجنّب تشويهه من خلال خداع الذات حول نقاء الحياة، يجب ألّا نفكّر في أنفسنا على أنّنا رفيقا روح، شيء لم يختبره أحد قطّ... هذا يجعل هبة صداقتنا التزامًا يجب أن ننمو معه... ولكن بمجرّد أن أكون قادرًا على أن أشكرك، وبقبلة على جبينك الطاهر، أمنحك شرف وجودك في عملي".

 

بعد أحد عشر يومًا، يتنامى افتتان هايدغر إلى حجم لا يمكن احتواؤه، وينفجر في فلسفة هذه الفكرة عندما يكتب:

"عزيزتي حنّة:

لماذا يبدو الحبّ في غنًى عن كلّ التجارب البشريّة الأخرى الممكنة، وعبئًا لطيفًا على أولئك الّذين يصبحون في قبضته؟ لأنّنا نصبح ما نحبّه، ومع ذلك نظلّ أنفسنا. وحين نريد أن نشكر مَنْ نحبّ لا نجد ما يكفي لنفعل ذلك.

لا يسعنا إلّا أن نشكر أنفسنا، فالحبّ يحوّل الامتنان إلى ولاء لأنفسنا وإيمان غير مشروط بالآخر، هكذا يكثّف الحبّ بثباتٍ سرّه الأعمق.

حنّة،

القرب مسألة أن تكون على مسافة أكبر من الآخر - مسافة لا تترك أيّ شيء يُطْمَس - لكنّها بدلًا من ذلك تضع أناك في حضور مجرّد - واضح ولكنّه غير مفهوم – للإدراك. إنّ وجود آخر يقتحم حياتنا فجأة، لا يمكن أيّ روح أن تتصالح مع ذلك، أن يسلّم الإنسان مصيره لمصير إنسان آخر، ووظيفة الحبّ الطاهر تتلخّص في المحافظة على هذا العطاء حيًّا كما كان في اليوم الأوّل".

 

لكنّ حنّة أرندت أنهت العلاقة فجأة، قبل الذكرى السنويّة الأولى لعلاقتهما الرومانسيّة بقليل، ويرجع سبب ذلك في جزء كبير منه إلى رغبتها في التركيز على سعيها الأكاديميّ في مجال الفلسفة، وفي رسالة إليها في كانون الثاني (يناير) من عام 1926، بذل هايدغر جهدًا رائعًا للتوفيق بين القوّتين المتعارضتين اللتين تمزّقانه؛ حسرة قلبه والصدق الّذي يتمنّى به كلّ خير لأرندت، فقد كتب:

" عزيزتي حنّة:

...  أتفهّم ذلك، لكنّ هذا لا يجعل الأمر أسهل في التحمّل. ما زلتُ أقلّ علمًا بما يفرضه حبّي عليك".

 

على الرغم من أنّ رسالة انسحاب أرندت كانت تتضمّن حاجتها إلى الانسحاب من الرومانسيّة من أجل التركيز على عملها، وهو تناقض دائم مع الرضا البشريّ، تناوله هايدغر في ردّه:

"هذا ‘الانسحاب‘ من كلّ شيء بشريّ، وقطع جميع الروابط، والتفرّغ للعمل الإبداعيّ، هو أروع تجربة بشريّة أعرفها، في ما يتعلّق بالمواقف الملموسة، إنّه أكثر الأشياء إثارة للاشمئزاز يمكن المرء مواجهته، أن يكون قلبه مخلوعًا من جسده.

وأصعب شيء عجزي عن الدفاع عن مثل هذه العزلة بالاستناد إلى ما تحقّقه؛ لأنّي لا أملك وسيلتي إلى ذلك، ولأنّ المرء لا يستطيع التخلّي عن العلاقات الإنسانيّة فحسب... مع عبء هذه العزلة الضروريّة، آمل دائمًا أن يكتمل تشكّل العزلة من الخارج وبقوّة؛ للحفاظ على مسافة نهائيّة وثابتة. عندها فقط يمكن تجنّب أيّ تضحية في وجود هذا النوع من الرفض.

لكنّ هذه الرغبة المعذّبة ليست بعيدة المنال فحسب، بل إنّها منسيّة، إلى درجة أنّ العلاقات الإنسانيّة الأكثر حيويّة تصبح ربيعًا مرّة أخرى، وتوفّر القوى الّتي تدفع المرء إلى العزلة مرّة أخرى... تصبح الحياة بكلّيّتها مسألة مقتضيات ليس لها أيّ مبرّر، التصالح مع ما يحدث بطريقة إيجابيّة - عدم اتّخاذ موقف حصريّ نوعًا من الهروب - هو ما يعنيه أن تكون فيلسوفًا".

 

ومع ذلك، مهما كانت تضحيات كونه فيلسوفًا مأساويّة، فإنّ هايدغر لم يتوانَ عن تشجيع أرندت الشابّة على القيام بها على أيّ حال؛ مستشهدًا في كلماته بشهادة على الفكرة الّتي طرحتها على الأجيال الفيلسوفة مارثا نوسباوم - من نواحٍ كثيرة وريثة فكريّة لأرندت – "بأنّ احتضان حاجتنا أمر ضروريّ لعلاقات صحّيّة". حتّى عندما شجّع هايدغر أرندت على السير في طريقها الخاصّ، فإنّه ظلّ يعبّر عن شوقه إليها، وحاجته إلى الإعجاب بمثابرتها:

"من الواضح - بشكل مستقلّ عنك وعنّي في هذه النقطة الأخيرة - أنّه في شبابك، ومرحلة التعلّم الخاصّة بك، يجب ألّا تلزم نفسك بأيّ أمر، فمن السيّئ دائمًا ألّا يستجمع الشباب القوّة للذهاب بعيدًا، إنّها علامة على أنّ حرّيّة الغرائز قد تلاشت، ونتيجة لذلك؛ فإنّ تلك الغرائز باقية، يجافيها بصورة إيجابيّة أيّ شكل من أشكال النموّ".

[...]

"وربّما يصبح قرارك مثالًا... إذا كان له تأثير جيّد، يمكن أن يكون فقط لأنّه يدعو إلى التضحية من كلٍّ منّا.

لقد جدّدت الأمسية ورسائلك يقيني بأنّ كلّ شيء يبقى قريبًا ممّا هو جيّد، ويصبح جيّدًا... أنت، حتّى في وضعك، يجب أن تكوني سعيدة، أولئك الّذين لديهم قلب شابّ وتوقّعات وإيمان قويّ فحسب، يمكن أن يكونوا في آفاق عالم جديد؛ معارف جديدة وهواء نقيّ ونموّ. أتمنّى أن يكون كلٌّ منّا متوافقًا مع وجود الآخر؛ أي من أجل حرّيّة الإيمان والضرورة الداخليّة للثقة غير المشوّهة، الّتي ستحافظ على حبّنا.

تستمرّ حياتي - دون مشاركتك لي وامتلاكي - بمثل هذا اليقين الغريب، إلى درجة أنّني أريد أن أصدّق أنّ الفراغ الجديد الّذي سيأتي مع رحيلك ضروريّ".

 

ومع ذلك، على الرغم من رحيل أرندت، فإنّ الحدّة العاطفيّة بينهما جذبتهما إلى مراسلات مستمرّة واجتماعات عرضيّة، على مدار الأشهر الّتي تلت ذلك. بحلول تمّوز (يوليو) من عام 1927، بعد أكثر من عامين من بدء علاقتهما الرومانسيّة، كانا لا يزالان في حالة حبّ، فقد كتب هايدغر ردًّا على رسالة أخرى من أرندت لم تكن خالية من المشاعر، ويبدو أنّها كانت مشحونة عاطفيًّا بشكل خاصّ:

"عزيزتي حنّة:

[...]

على الرغم من أنّك كنت حاضرة فيَّ كما كنت في اليوم الأوّل، إلّا أنّ رسالتك جعلتك قريبة بشكل خاصّ. أحمل يديك الجميلتين في يديّ، وأدعو لك بالسعادة.

[...]

"طفلتي، عزيزتي، هل فقط ‘أتمنّى‘ أن أثق بك؟ أسأل الجزء الأعمق من قلبك، الّذي أشرق عليّ كثيرًا من عينيك العميقتين الرائعتين، سيخبرك: في أعماقي أنا متأكّد تمامًا، وبكلّ بساطة من هذه الثقة.

لقد هزّتني رسالتك بقدر ما هزّتني أوّل مرّة كنت فيها قربك. لقد عادت تلك الأيّام بقوّة عنصريّة، بفضل كلمات حبّك هذه".

 

ويضيف هايدغر مردّدًا انعكاس فان غوخ الجميل على الضرورة الموازية للعطاء والاستقبال في الحبّ:

"عزيزتي حنّة:

كان الأمر بالنسبة إليّ كَمَنْ يتخلّى عن شيء رائع؛ لكي يحصل عليه، كملكيّة جديدة. ما زلت لم أستوعب الأمر، فضلًا على فهم الأشياء غير المتوقّعة الّتي رأيتها في وجودنا في تلك الساعات".

في نيسان (أبريل) من عام 1928، كرّرت أرندت تأكيد فرويد الشهير بأنّ "الحبّ والعمل هما حجر الزاوية للروح البشريّة"، واختارت في النهاية الفلسفة على علاقتها الرومانسيّة مع هايدغر، فكتبت إليه راجية أن يفهم اختيارها، واثقة بأنّه بصفته فيلسوفًا، شخص يستهلكه عمله بالكامل، لن يكون أمامه خيار سوى أن يفهم:

"أحبّك كما فعلت في اليوم الأوّل، أنت تعرف ذلك، وقد عرفته دائمًا، حتّى قبل لقائنا هذا، فإنّ الطريق الّذي رسمته لي أطول وأصعب ممّا كنت أعتقد. يتطلّب حياة طويلة في مجملها. إنّ اعتزال هذا الطريق خياري، وهو الطريقة الوحيدة للعيش حسب ما تعلّمت منك، لكنّ الخراب الّذي خبّأه القدر لم يكن ليأخذ منّي القوّة للعيش في العالم، كان من شأنه أيضًا أن يسدّ طريقي؛ لأنّه طريق واسع وليس قفزة تعبر فيها العالم. أنت فقط مَنْ يحقّ لك معرفة هذا؛ لأنّك كنت تعرفه دائمًا. وأعتقد أنّه حتّى عندما ألوذ بالصمت، فلن أكون أبدًا غير صادقة. أنا دائمًا أعطي ما يريده أيّ شخص منّي، والطريق نفسه ليس سوى الالتزام الّذي يجعلني حبّنا مسؤولة عنه. سأفقد حقّي في الحياة إذا فقدت حبّي لك، لكنّني أيضًا سأفقد هذا الحبّ وواقعه إذا تخلّيتُ عن المسؤوليّة الّتي يفرضها عليّ".

 

في العام التالي، التقت أرندت بصحافيّ وفيلسوف ألمانيّ شابّ، في ندوة من ندوات هايدغر، وتزوّجته في خريف ذلك العام، كتبت في يوم زفافها، وهي ترسل صدًى رومانسيًّا أخيرًا إلى هايدغر، حزينة وفخورة في نفس الوقت:

" لا تنسني، ولا تنسَ كم وكم أعرف أنّ حبّنا أصبح نعمة في حياتي. هذه المعرفة لا يمكن أن تتزعزع، ولا حتّى في هذا اليوم، عندما وجدت، كوسيلة للخروج من قلقي، منزلًا وشعورًا بالانتماء إلى شخص قد لا أفهمه كثيرًا.

[...]

أقبّل جبينك وعينيك،

(حنّة خاصّتك)".

 

استمرّت علاقة أرندت وهايدغر لمدّة نصف قرن، حتّى وفاة أرندت المفاجِئة... وبقيت هذه الرسائل المتبادلة في الأعوام بين 1925 و1975، بقيت على أنّها سجلّ استثنائيّ لهذه العلاقة الوطيدة، مليئة بالحكمة الخالدة حول كلّ جانب من جوانب الحياة والثقافة تقريبًا.

 

* ماريا بوبوفا: كاتبة بلغاريّة تقيم في الولايات المتّحدة الأمريكيّة.

 


 

عبّود الجابري

 

 

 

شاعر ومترجم عراقيّ يقيم في عمّان. أصدر سبع مجموعات شعريّة. نشر وترجم العديد من النصوص والدراسات في مختلف الدوريّات والصحف العربيّة.

 

 

التعليقات